كتاب “هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي” للدكتورة حنان اللحام هو محاولة لتقديم قراءة سوسيولوجية (اجتماعية) وإدارية لحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لا كقصة دينية أو تاريخية فحسب، بل كمنهج عملي لإحداث تغيير جذري وناجح في أي مجتمع.
الكتاب يخرج بالسيرة من إطار العبادات والقصص إلى إطار علم الإدارة الاجتماعية، ويسلط الضوء على المراحل والآليات التي استخدمها النبي لتغيير مجتمع جاهلي، جامد، ومقاوم إلى مجتمع جديد ومتقدم.
السيرة النبوية: دراسة حالة للتغيير المنهجي
تطرح الدكتورة حنان اللحام سؤالاً جوهرياً: كيف نجح قائد واحد، بأقل الموارد، في غضون عقدين من الزمان، في تحويل منظومة اجتماعية واقتصادية وفكرية متجذرة؟ الإجابة تكمن في أن هذا التغيير لم يكن عشوائياً، بل اتبع مراحل وأسساً منهجية يمكن استخلاصها ودراستها.
الكتاب لا يركز على المعجزات، بل على السنن الاجتماعية التي وضعها النبي، مما يجعله ذا أهمية للمصلحين الاجتماعيين، وعلماء الإدارة، وحتى القادة السياسيين المعاصرين. لنناقش أبرز المحاور والأفكار:
المحور الأول: التغيير يبدأ بالفرد (بناء القاعدة الصلبة)
أول وأهم ما ركزت عليه السيرة، وفقاً للكتاب، هو أن التغيير الاجتماعي الحقيقي لا يمكن أن يبدأ بالهياكل والقوانين قبل أن يبدأ بتحرير الفرد وتغيير منظومة قيمه الداخلية.
1. التغيير الفكري أولاً (إعادة برمجة القناعات)
المرحلة الأولى في السيرة، وهي المرحلة المكية، كانت تركز بالكامل على العقيدة والقيم. لماذا؟
- مناقشة القارئ: إذا أردت إصلاح مبنى متهالك، فهل تبدأ بطلاء الجدران أم بتدعيم الأساس؟ النبي، بحسب الدكتورة حنان، بدأ بتدعيم أساس الفكر. كان المجتمع الجاهلي يرى القوة في المال والقبيلة، فجاء الإسلام ليضع القيمة في الإيمان والعمل الصالح.
- التركيز على “الذات” قبل “المجتمع”: قبل الحديث عن الاقتصاد أو السياسة، كان الخطاب موجهاً نحو التزكية الشخصية، والمسؤولية الفردية، والصلة بالله. هذا يضمن أن الأفراد الذين سيحملون مشروع التغيير لديهم دافع داخلي قوي (الإيمان) لا يتأثر بالمتغيرات الخارجية (المغريات أو التهديدات).
2. صناعة “الرعيل الأول” (المجموعة النموذجية)
لم يتجه النبي لتغيير المجتمع كله دفعة واحدة، بل ركز على بناء مجموعة صغيرة (الصحابة) تتمتع بأعلى درجات التكيف والثبات الأخلاقي.
- القيادة بالقدوة: هؤلاء الأفراد لم يكونوا مجرد “مؤمنين” بل كانوا نماذج عملية لكيفية العيش بالمبادئ الجديدة. هم نواة التغيير التي ستنقل الأفكار إلى الواقع. هذا المنهج في الإدارة الحديثة يسمى “بناء الفريق الأساسي عالي الأداء”.
المحور الثاني: التغيير ينتقل إلى الهيكل (إقامة الدولة)
بعد إعداد القاعدة الفردية القوية في مكة، جاءت الهجرة إلى المدينة لتكون نقطة التحول من تغيير الأفراد إلى تغيير الهيكل والمؤسسات.
1. مؤاخاة المجتمع (دمج وإلغاء الطبقية)
أول عمل قام به النبي بعد الهجرة هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. لم تكن عملية عاطفية فقط، بل كانت هيكلية واقتصادية لدمج مجموعتين مختلفتين تماماً (الزراعة والتجارة).
- مناقشة القارئ: تخيل أن لديك مدينتين متجاورتين يكره سكان إحداهما الآخر، ولديهما اختلافات جذرية في نمط الحياة. كيف تدمجهما في كيان واحد متماسك؟ المؤاخاة حلت مشكلة الطبقية، والعرقية، والفقر في آن واحد، عن طريق إنشاء رابطة “الأخوة في الدين” كأعلى رابطة اجتماعية، فوق رابطة الدم والقبيلة.
- إلغاء التقسيم الجاهلي: الكتاب يوضح كيف هدمت السيرة المفاهيم الجاهلية للتقسيم الطبقي، حيث أصبح العبد السابق (مثل بلال) يقف في الصف الأول مع أسياده السابقين في الصلاة والشورى.
2. وثيقة المدينة (الدستور التعددي)
وثيقة المدينة هي دليل ساطع على عبقرية التغيير الاجتماعي النبوي، حيث قدمت أول دستور مدني في تلك الحقبة.
- التعددية الدينية: الوثيقة لم تفرض ديناً واحداً، بل نظمت العلاقة بين المسلمين واليهود والمجموعات الأخرى في إطار دولة واحدة، مع ضمان حقوق الجميع. هذا المنهج يرسخ مبدأ المواطنة والتعايش السلمي.
- السلطة المرجعية الواحدة: رغم التعددية، جعلت الوثيقة النبي هو المرجع النهائي لحل النزاعات، مما يوحد سلطة التشريع والقضاء داخل المجتمع الجديد.
المحور الثالث: الاقتصاد كأداة للتغيير القيمي
يُظهر الكتاب أن التغيير لم يكن معنوياً فحسب، بل كان اقتصادياً جذرياً يخدم القيم الجديدة.
1. تحريم الربا (تطهير النظام الاقتصادي)
الربا كان ركيزة أساسية في اقتصاد الجاهلية، وكان سبباً في تفاقم الفقر والعبودية. تحريمه لم يكن مجرد قانون، بل كان إعلاناً للحرب على الاستغلال الاقتصادي ورسالة بأن هدف المال هو التنمية والتعاون وليس الاستغلال.
- توجيه الثروة: فرض الزكاة والصدقات هو آلية لضمان توزيع الثروة وتفعيل مبدأ التكافل الاجتماعي، بحيث لا تبقى الثروة دولة بين الأغنياء فقط.
2. منهج التعليم والعمل (تغيير ثقافة العمل)
ركزت السيرة على تفعيل العمل والإنتاج ومحاربة الكسل والاتكالية. الأحاديث النبوية التي تمجد العمل اليدوي وطلب الرزق هي جزء من هذا التغيير الاجتماعي الذي دفع المجتمع للخروج من ثقافة الاتكال القبلي إلى ثقافة الجهد الفردي والإنتاج.
الخلاصة: السيرة كـ”علم اجتماع تطبيقي”
كتاب “هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي” للدكتورة حنان اللحام يقدم السيرة كـ**”نموذج إداري متكامل”** لا يزال صالحاً للدراسة. الرسالة الأساسية هي أن التغيير الاجتماعي الناجح يتطلب:
- بدء التغيير بالقناعات والقيم (المرحلة المكية).
- بناء هيكل اجتماعي وقانوني عادل (وثيقة المدينة).
- ربط الاقتصاد بالأخلاق لضمان استدامة التغيير.
هذه القراءة الحديثة تفتح الباب لتطبيق هذه الأسس في أي مشروع إصلاحي أو تنموي في العصر الحديث.