نعم، تشير الأدلة العلمية المستمدة من مصادر موثوقة إلى أن العمل لساعات طويلة له تأثيرات سلبية واضحة على وظائف الدماغ والصحة العقلية. هذا التأثير لا يقتصر على مجرد الشعور بالتعب، بل يمتد ليؤثر على الهياكل العصبية والقدرات المعرفية على المدى الطويل.
كيف يؤثر العمل لساعات طويلة على الدماغ؟
توصلت الأبحاث في مجالات علم الأعصاب والصحة المهنية إلى أن زيادة ساعات العمل إلى أكثر من 55 ساعة أسبوعياً ترتبط بعدة مخاطر صحية ومعرفية:
تدهور الوظائف المعرفية (Cognitive Decline)
يؤدي الإجهاد المزمن الناتج عن ساعات العمل الطويلة إلى استنزاف الموارد المعرفية للدماغ.
- انخفاض الذاكرة والتركيز: أظهرت دراسة واسعة النطاق نُشرت في المجلة الأمريكية لعلم الأوبئة أن الأشخاص الذين يعملون 55 ساعة أو أكثر في الأسبوع يظهرون تدهوراً أكبر في وظائف الذاكرة قصيرة المدى ومهارات الاستدلال مقارنة بمن يعملون 40 ساعة. ويعود ذلك جزئياً إلى الإرهاق الذي يقلل من قدرة الدماغ على معالجة وتخزين المعلومات بفعالية.
- تأثر القدرة على اتخاذ القرار: يؤدي التعب المفرط إلى إضعاف عمل قشرة الفص الجبهي (Prefrontal Cortex)، وهي المنطقة المسؤولة عن التخطيط، والمنطق، واتخاذ القرارات المعقدة. يصبح الشخص أكثر عرضة لاتخاذ قرارات متسرعة أو غير مدروسة.
التغيرات الهيكلية والجزيئية في الدماغ
لا يقتصر التأثير على الأداء، بل يمتد إلى بنية الدماغ نفسه والعمليات الكيميائية فيه:
- زيادة هرمون الكورتيزول: يؤدي الإجهاد المستمر إلى ارتفاع مزمن في مستويات هرمون الكورتيزول (هرمون الإجهاد). المستويات المرتفعة من الكورتيزول يمكن أن تكون سامة للخلايا العصبية، خاصة في منطقة الحُصين (Hippocampus)، وهي الجزء الرئيسي المسؤول عن تكوين الذكريات. يمكن أن يؤدي هذا الضرر إلى تقلص حجم الحُصين، مما يفاقم مشاكل الذاكرة.
- اضطراب النوم والدورة البيولوجية: العمل لساعات طويلة، خاصة العمل بنظام المناوبات، يخل بإيقاع الساعة البيولوجية (Circadian Rhythm). يؤثر هذا الاضطراب بشكل مباشر على جودة النوم، وهو الوقت الذي يقوم فيه الدماغ بعمليات “تنظيف” أساسية وإصلاح للخلايا العصبية (مثل إزالة بروتينات “الأميلويد” المرتبطة بأمراض التنكس العصبي). ضعف هذه العملية يزيد من خطر الإصابة بالخرف على المدى البعيد.
مخاطر الصحة العقلية والعصبية
يتجاوز الإجهاد المهني مجرد الشعور “بالتعب” ليصبح عامل خطر رئيسي للإصابة بأمراض خطيرة:
- زيادة خطر الإصابة بالسكتة الدماغية: وجدت مراجعة منهجية وتحليل تجميعي (Meta-Analysis) نُشر في مجلة The Lancet أن العمل لـ 55 ساعة أو أكثر أسبوعياً يرتبط بزيادة خطر الإصابة بالسكتة الدماغية (Stroke) بنسبة تصل إلى 33% مقارنة بالعمل 35-40 ساعة أسبوعياً. ويرجع ذلك إلى ارتفاع ضغط الدم، والالتهابات المزمنة، وتغيرات في معدل ضربات القلب التي يسببها الإجهاد المفرط.
- الاكتئاب والقلق والإرهاق: العمل الزائد هو أحد المحفزات الرئيسية لمتلازمة الإنهاك الوظيفي (Burnout). وقد أثبتت الدراسات أن الأشخاص الذين يعملون لساعات طويلة أكثر عرضة للإصابة بأعراض الاكتئاب والقلق واضطرابات المزاج، لأن الدماغ لا يحصل على الوقت الكافي للتعافي وإعادة شحن الموصلات العصبية المسؤولة عن تنظيم المزاج.
- التأثير على المادة البيضاء: أشارت بعض الأبحاث التصويرية إلى أن الإجهاد المزمن يمكن أن يؤدي إلى تغييرات في المادة البيضاء (White Matter) في الدماغ، وهي الألياف العصبية التي تربط مناطق الدماغ ببعضها البعض. يمكن أن تعيق هذه التغييرات سرعة وكفاءة الاتصالات العصبية.
الخلاصة: أهمية التوازن للوقاية
يؤكد العلم الحديث أن العمل لساعات طويلة ليس دلالة على الإنتاجية بالضرورة، بل هو عامل خطر يهدد سلامة الدماغ على المديين القصير والطويل. إن الحفاظ على جدول عمل منتظم، لا يتجاوز 40-50 ساعة أسبوعياً، مع تخصيص وقت كافٍ للنوم، والنشاط البدني، والتواصل الاجتماعي، هو أمر حيوي لحماية الوظائف المعرفية وتجنب المخاطر الصحية العصبية والقلبية الوعائية المرتبطة بالإجهاد المزمن.
المصادر
- The Lancet. (2015). Long working hours and risk of stroke: a systematic review and meta-analysis.
- مجلة “ذا لانسيت” (The Lancet): إحدى أكثر المجلات الطبية العامة شهرة وموثوقية في العالم.
- American Journal of Epidemiology. (2009). Working hours and cognitive function: the Whitehall II study.
- المجلة الأمريكية لعلم الأوبئة: مجلة علمية رائدة متخصصة في دراسة أسباب وأنماط وتأثيرات الأمراض في المجموعات السكانية.
- National Institute for Occupational Safety and Health (NIOSH). (Various Publications). Overtime and Extended Work Shifts: Recent Findings.
- المعهد الوطني للسلامة والصحة المهنية: هيئة بحثية اتحادية أمريكية تابعة لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، وتقدم إرشادات موثوقة حول مخاطر العمل.
- Nature Communications. (2020). Work stress, recovery, and cognitive performance.
- مجلة نيتشر كوميونيكيشنز (Nature Communications): مجلة علمية متعددة التخصصات وذات عامل تأثير عالٍ، تنشر أبحاثًا أساسية في جميع مجالات العلوم الطبيعية والسريرية.