يظل كتاب “أسس الصحة النفسية” للدكتور عبد العزيز القوصي مرجعاً حياً، حتى ونحن نعيش في عالم تقوده الشاشات والألعاب الإلكترونية المعقدة. القوصي لم يرَ ألعاب الفيديو، لكن مبادئه الأساسية حول التكيف والتوازن تقدم لنا إطاراً مثالياً لفهم كيفية تأثير هذه الظواهر المعاصرة على عقولنا.
إن الصحة النفسية، بحسب القوصي، ليست غياب المشكلات، بل هي القدرة على تحقيق التكيف الناجح بين الفرد وبيئته. في زمننا الحالي، أصبحت البيئة تشمل الفضاء الرقمي، وألعاب الفيديو مثال ساطع على تحديات هذا التكيف.
المحور الأول: التكيف المضلل والمطلوب
يركز القوصي على أن التكيف هو جوهر الحياة. لكن في العصر الحديث، يواجه الأفراد تكيفاً مضللاً تقدمه الألعاب الرقمية:
- التكيف السلبي (الهروب من الواقع): عندما يتحول اللعب إلى إدمان، يصبح آلية دفاعية للهروب من ضغوط الحياة الحقيقية (الدراسة، العمل، العلاقات). القوصي يعتبر هذا تكيفاً سلبياً أو فاشلاً لأنه يعتمد على إنكار الواقع أو الانسحاب منه.
- مثال تطبيقي: الطالب الذي يقضي 10 ساعات يومياً في لعبة (مثل PUBG أو Fortnite) لتحقيق “الإنجاز والشهرة الافتراضية”، يهرب فعلياً من تحديات حياته الأكاديمية أو الاجتماعية. يمنحه الفضاء الافتراضي إحساساً زائفاً بالسيطرة والتفوق، لكنه يضر بقدرته على التكيف مع متطلبات الحياة الفعلية.
- التكيف الإيجابي (التوازن والتحكم): التكيف الصحي يتمثل في استخدام الألعاب كأداة ترفيه أو تنمية مهارات (مثل التخطيط وسرعة اتخاذ القرار)، مع الحفاظ على التوازن في الوقت والمجهود. هذا ينسجم مع دعوة القوصي للنضج العاطفي والقدرة على التحكم في الانفعالات وتوجيهها.
المحور الثاني: تأثير الألعاب على النضج العاطفي والإدراك الواقعي
من أهم سمات الشخصية السوية عند القوصي هي النضج العاطفي وإدراك الواقع. وهنا تكمن إحدى أكبر التحديات التي تطرحها الألعاب:
- تشويه إدراك الواقع: في الألعاب، يمكن للاعب أن يموت ويعود للحياة، أو يخسر جولة ويعيدها بلا عواقب حقيقية. هذا قد يقلل من تقدير قيمة النتائج في الحياة الواقعية. شواهد القوصي تؤكد أن الشخص السوي هو من يدرك الواقع كما هو ولا يخدع نفسه. التعلق المفرط بالبيئة الافتراضية يمكن أن يعرقل هذا الإدراك.
- عزل المشاعر (العلاقات الاجتماعية): الألعاب، وخاصة الجماعية منها، تحول العلاقات إلى تفاعل وظيفي مرتبط باللعبة، بدلاً من التفاعل العاطفي العميق. القوصي يؤكد على أن التكيف يشمل القدرة على العطاء والحب وتحمل المسؤولية الاجتماعية.
- دعم الأبحاث: تشير الأبحاث الحديثة في علم النفس إلى أن الإفراط في اللعب يقلل من الذكاء العاطفي والقدرة على فهم الإشارات الاجتماعية المعقدة التي لا تتوفر في بيئة اللعبة.
المحور الثالث: المنهج الإنمائي والتنمية المهدورة
يُركز المنهج الإنمائي للقوصي على مساعدة الفرد على اكتشاف قدراته وتوجيهها نحو تحقيق الذات والإنتاجية.
- استنزاف القدرات في غير موضعها: يمتلك اللاعبون المهرة قدرات ذهنية عالية: التركيز، التخطيط الاستراتيجي، رد الفعل السريع، والعمل الجماعي. لكن المأساة، بحسب مفهوم القوصي الإنمائي، هي عندما تُستنزف هذه القدرات الذهنية القيمة بالكامل في إنجازات لا قيمة لها في الواقع الفعلي (مثل الوصول إلى مستويات متقدمة في اللعبة).
- شاهد من القوصي: الصحة النفسية تُرادف “الفعالية والإنتاجية”. قضاء ساعات طويلة في نشاط غير مُنتج فعلياً يُعتبر تبديداً لهذه الفعالية، مما يؤدي إلى الشعور بالإحباط والذنب على المدى الطويل، وهو نقيض الصحة النفسية.
- دور المجتمع في التوجيه: على المجتمع (الأسرة والمدرسة) استخدام المنهج الوقائي عبر توجيه الأبناء نحو الأنشطة التي توازن بين الترفيه الرقمي والمهارات الحياتية. يجب أن نُعلم الأفراد كيف يكون الترفيه أداة للراحة وليس هدفاً للحياة.
خلاصة: التوازن في البيئتين
إن مبادئ عبد العزيز القوصي تقدم إطاراً متيناً لمعالجة تحديات الحياة الرقمية. النجاح في العصر الحديث يكمن في تحقيق التكيف المتوازن، حيث نستخدم التكنولوجيا للنمو دون أن نسمح لها بتشويه إدراكنا للواقع أو استنزاف قدراتنا. التوازن يقتضي أن تظل السيطرة في يد العقل، وليس العكس.